تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 473 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 473

473 : تفسير الصفحة رقم 473 من القرآن الكريم

** إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوَءُ الدّارِ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىَ وَأَوْرَثْنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ * هُدًى وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَاسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالإِبْكَارِ * إِنّ الّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيَ آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ مّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّـهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ
قد أورد أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدني} سؤالاً فقال قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم, وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ثم أجاب عن ذلك بجوابين (أحدهما) أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة (الثاني) أن يكون المراد بالنصر والإنتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر, وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل الخنزير ويكسر الصليب, ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب» وفي الحديث الاَخر: «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث بالحرب» ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً, قال السدي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان, وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً, ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم له وقتل صناديديهم, وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد, ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنفذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجاً, ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا, وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل, قال مجاهد: الأشهاد الملائكة. وقوله تعالى: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} بدل من قوله: {ويوم يقوم الأشهاد} وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به {ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين} وهم)المشركون {معذرتهم} أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية {ولهم اللعنة} أي الإبعاد والطرد من الرحمة {ولهم سوء الدار} وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {ولهم سوء الدار} أي سوء العاقبة وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الهدى} وهو ما بعثه الله عز وجل به من الهدى والنور {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} أي جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوارة {هدى وذكرى لأولي الألباب} وهي العقول الصحيحة السليمة. وقوله عز وجل: {فاصبر} أي يا محمد {إن وعد الله حق} أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك وتعالى: {واستغفر لذنبك} هذا تهييج للأمة على الاستغفار {وسبح بحمد ربك بالعشي} أي في أواخر النهار وأوائل الليل {والإبكار} وهي أوائل النهار وأواخر الليل. وقوله تعالى: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم} أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع {فاستعذ بالله} أي من حال مثل هؤلاء {إنه هو السميع البصير} أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا تفسير ابن جرير.
وقال كعب وأبو العالية نزلت هذه الاَية في اليهود {إن الذين يجادلون في آيات اللهبغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم يملكون به الأرض فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم آمراً له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عز وجل: {فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير} وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه, والله سبحانه وتعالى أعلم.

** لَخَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَا يَسْتَوِي الأعْـمَىَ وَالْبَصِيرُ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيَءُ قَلِيـلاً مّا تَتَذَكّرُونَ * إِنّ السّاعَةَ لاَتِيَـةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
يقول تعالى منبهاً على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السموات والأرض وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير} وقال ههنا: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض وينكرون المعاد استبعاداً وكفراً وعناداً وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ثم قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون} أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره, بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار {قليلاً ما تتذكرون} أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ثم قال تعالى: {إن الساعة لاَتية} أي لكائنة وواقعة {لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها. قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أشهب حدثنا مالك عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال: سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس, والله أعلم.